جرس إنذار في الساحل.. تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا بين فكي العدالة الشاملة والانتقام
جرس إنذار في الساحل.. تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا بين فكي العدالة الشاملة والانتقام
رغم أن الإدارة الجديدة في سوريا توقعت تلاشي الاقتتال الأهلي بعد إسقاط بشار الأسد قبل نحو ثلاثة أشهر، لا تزال البلاد تعيش دوامة عنف متزايدة، حيث شهدت أكثر من 44 "مجزرة"، كان آخرها في الساحل السوري، وأودت بحياة مئات المدنيين.
ويرى مراقبون سوريون، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، أن إنهاء العنف في سوريا لا يمكن تحقيقه فقط عبر الوسائل الأمنية، بل يتطلب تحولًا إلى نهج سياسي واجتماعي أكثر شمولية.
ويؤكد هؤلاء أن ما يجري يُشكل "نقطة سوداء في تاريخ البلاد وجرس إنذار خطيراً"، مشددين على ضرورة تبني عدة مسارات رئيسية لمواجهة الأزمة، أبرزها المصالحة الوطنية، وإشراك الجميع في العملية السياسية الانتقالية، وتأجيل القضايا الشائكة، مثل "العدالة الانتقالية"، إلى حين تحقيق الاستقرار الكامل، كما شددوا على أهمية الدعم الاقتصادي ورفع العقوبات للمساهمة في إعادة البناء.
وشهد ديسمبر الماضي نهاية حكم عائلة الأسد المستمر منذ عام 1970، بعد سقوط النظام بيد "هيئة تحرير الشام"، ما أثار مخاوف من عمليات انتقام تستهدف مناصري الأسد وحلفاءه.
ولا يزال الوضع في سوريا يثير قلق المجتمع الدولي، إذ حذّر رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، باولو سيرجيو بينيرو، من أن استمرار العنف ينذر باندلاع صراع أوسع نطاقًا، داعيا إلى وقف شامل لإطلاق النار، ونزع سلاح الجماعات المسلحة، وإنهاء وجود الجيوش الأجنبية، وتأمين النظام العام.
وفي كلمته أمام الدورة الـ58 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، حثّ بينيرو السلطات الانتقالية في سوريا على اغتنام الفرصة لرسم مسار جديد يُنهي مآسي الماضي، مشيرًا إلى خطوات عاجلة اتخذتها حكومة تصريف الأعمال، مثل تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في أحداث الساحل السوري، وأعرب عن أمله في أن تعمل هذه اللجنة باستقلالية تامة.
وأكد بينيرو أن السوريين الذين التقتهم اللجنة طالبوا باستمرار بتحقيق العدالة والمساءلة، سواء عبر محاكمة الجناة من كبار المسؤولين أو من خلال إجراءات أوسع تضمن معرفة الحقيقة، والتعويض، وعدم تكرار الفظائع، كما نبه إلى التدهور الاقتصادي المتسارع، محذرًا من أن تقلص التمويل الإنساني يفاقم الأوضاع ويؤجج العنف، داعيًا إلى رفع العقوبات الاقتصادية وتذليل العقبات التي تعرقل جهود إعادة الإعمار.
تصاعد الهجمات
في مارس الجاري، أعلنت السلطات السورية تعرض قواتها الأمنية لهجوم نفذه مسلحون موالون للرئيس السابق بشار الأسد، الذي تعود أصول عائلته العلوية إلى المنطقة الساحلية، وردًا على الهجوم، وقعت عمليات قتل واسعة النطاق استهدفت العلويين، ما أسفر عن أسوأ أعمال عنف منذ الإطاحة بالأسد.
ووفقًا لبيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان، قُتل ما لا يقل عن 1383 مدنيًا علويًا منذ 6 مارس على يد قوات الأمن السورية وجماعات متحالفة معها.
وفي 9 مارس، تعهد الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، بمن فيهم حلفاؤه إذا لزم الأمر، كما أمر بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في أحداث الساحل السوري، على أن تقدم تقريرها خلال 30 يوما.
في 13 مارس، وثّق المرصد السوري ارتكاب 44 مجزرة طائفية منذ بداية الشهر، أودت بحياة 1476 مدنيًا في اللاذقية، وطرطوس، وحماة، وحمص، إلى جانب عمليات حرق ونهب للممتلكات، كما وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون خلال أربعة أيام فقط.
وفي 11 مارس، دعت منظمة "هيومن رايتس ووتش" السلطات السورية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمحاسبة المسؤولين عن عمليات القتل العشوائي والإعدامات الميدانية في اللاذقية وطرطوس، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1400 شخص، معظمهم من الطائفة العلوية.
وأكد نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، آدم كوغل، أن التقارير الواردة بشأن هذه الانتهاكات "صادمة"، مشددًا على ضرورة محاسبة المسؤولين عنها دون تمييز.
وأكدت "هيومن رايتس ووتش" أن العنف المتصاعد يبرز الحاجة إلى تحقيق العدالة ومحاسبة جميع الأطراف المتورطة في الانتهاكات، بما في ذلك الجماعات المسلحة مثل "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا.
ودعت المنظمة الدولية القيادة السورية الجديدة إلى التعاون مع الآليات الدولية لضمان وصول المراقبين المستقلين إلى مناطق النزاع، مشددة على أن استقرار سوريا لن يتحقق دون إصلاح شامل للقطاع الأمني، يتضمن تدقيقًا صارمًا لاستبعاد المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي 15 مارس، أفادت تقارير إغاثية بعبور أكثر من 10 آلاف سوري الحدود باتجاه منطقة عكار شمال لبنان منذ 6 مارس، هربًا من تصاعد الانتهاكات بحقهم، كما شهدت منطقتا اللاذقية وطرطوس انقطاعًا مفاجئًا في خدمات الاتصالات والإنترنت على شبكتي الهاتف المحمول، ما أثار مخاوف السكان من إطلاق عملية أمنية واسعة النطاق في المنطقة.
دائرة مفرغة
بدوره، أكد المحلل السياسي السوري عبد الرحمن ربوع أن "السوريين يعيشون في دائرة مفرغة من العنف منذ أربعة عشر عامًا، في حرب شهدت تدخلات إقليمية ودولية، بالإضافة إلى مشاركة العديد من المليشيات غير السورية".
وأضاف ربوع في تصريح لـ"جسور بوست": "مع هروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي وسقوط نظامه، انهارت مؤسسات الدولة مع فرار معظم المسؤولين خارج البلاد، كنا نعتقد أن الحرب قد انتهت، وأن الفرصة سانحة لإعادة بناء الدولة وإعمار ما تهدم، وإعادة ملايين اللاجئين والنازحين، لكن يبدو أن الأمر أكثر تعقيدًا، فالتدخلات الخارجية لا تزال مستمرة، وتسعى بعض الجهات إلى إغراق سوريا في مزيد من الاقتتال والفوضى".
وأوضح أنه "في السادس من مارس، نفذ المئات من فلول النظام السابق، من المطلوبين للعدالة ومجرمي الحرب الذين ارتكبوا الفظائع منذ 2011 حتى نهاية 2024، عشرات العمليات الإرهابية المتزامنة في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 230 من رجال الشرطة والجيش وحراس المنشآت العامة والطرق".
وفي المقابل، شنت قوات الحكومة المؤقتة في دمشق حملة أمنية وعسكرية واسعة شارك فيها أكثر من عشرة آلاف عنصر من الجيش والأمن، إلى جانب عشرات الآلاف من المسلحين القادمين من إدلب، وحلب، وحمص، وحماة، ودير الزور، ودرعا، ودمشق.
وأسفرت هذه العمليات عن مقتل ما يقرب من 250 عنصرًا من فلول النظام السابق، بالإضافة إلى سقوط أكثر من 900 مدني، بينهم نساء وأطفال، نتيجة الاشتباكات وعمليات الاقتحام، فضلًا عن الجرائم التي ارتكبتها بعض القوات الأمنية والمسلحين الذين جاؤوا لدعم الجيش والشرطة.
واعتبر ربوع أن "ما جرى بين السادس والعاشر من مارس يمثل نقطة سوداء في تاريخ سوريا، بسبب فظاعة الجرائم التي ارتكبها الطرفان"، مشيرًا إلى أن "الرئيس المؤقت أحمد الشرع شكّل لجنة تحقيق مستقلة لتقصي الحقائق، ومن المفترض أن تبني الحكومة المؤقتة قراراتها على توصيات هذه اللجنة، لضمان محاسبة جميع المتورطين في هذه الجرائم".
وأضاف أن "بعض المجرمين تم القبض عليهم بالفعل، فيما لا يزال البعض الآخر متواريًا عن الأنظار، بينما فرّ آخرون إلى لبنان أو لجؤوا إلى القاعدة الروسية في مطار حميميم بريف اللاذقية".
تحريض طائفي
وأشار ربوع إلى أن “المتابعين والمراقبين لاحظوا حجم التحريض الطائفي الذي غذّته وسائل إعلام داعمة للنظام السابق في إيران، والعراق، ولبنان، فضلًا عن حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تابعة لمؤيدين للأسد الهارب.. وفي المقابل، كان هناك أيضًا تحريض من بعض الجهات الداعمة للحكومة المؤقتة، بما في ذلك بعض خطباء وزارة الأوقاف، وقادة فصائل مسلحة لم تندمج بعد تحت قيادة وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة".
وأكد ربوع أن "سوريا لن تهدأ إلا بتحقيق مصالحة وطنية شاملة تضم جميع الأطراف، بما في ذلك فلول النظام السابق، نظرًا لأن الجميع مسلحون ويحظون بدعم خارجي قوي".
وشدد على أن "هذه المصالحة يجب أن تقوم على إشراك الجميع في العملية السياسية الانتقالية، وتأجيل القضايا الشائكة، مثل العدالة الانتقالية، إلى حين تحقيق الاستقرار، وإنجاز تحقيقات موسعة تعتمد على أسس علمية وقانونية، كما يجب إنشاء محكمة مختصة لمحاسبة مجرمي الحرب وإنصاف الضحايا".
وتابع: "يجب التوصل إلى اتفاق، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، بين جميع الدول المتدخلة في الشأن السوري، يقضي بوقف كل أشكال التحريض والدعم التي تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وينبغي أن تعمل هذه الدول على تحقيق الوفاق، لا تأجيج الانقسام والصراع".
وفي ختام حديثه، دعا ربوع إلى "أهمية تقديم الدعم السياسي والمالي للحكومة المؤقتة والحكومة الانتقالية، لتمكينها من إنجاز المرحلة الانتقالية بسرعة، وصولًا إلى صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات، وإعادة إعمار البنية التحتية، وهذا الدعم ضروري ليس فقط لضمان الاستقرار، ولكن أيضًا لتسهيل عودة ملايين السوريين إلى وطنهم، ليشاركوا في إعادة الإعمار وترسيخ الأمن والاستقرار في البلاد".
كارثة إنسانية
من جانبه أكد المحامي والناشط السوري أنس جودة أن "ما حدث في الساحل السوري يُعد جرس إنذار هائل بشأن تصاعد العنف، لكن هذا العنف لم يبدأ هناك، بل سبقته حوادث صغيرة ومتفرقة في حمص وحماة وريفهما، والتي تصاعدت تدريجيًا حتى وصلت إلى كارثة إنسانية كبرى في الساحل، لم يتم التعامل معها حتى الآن بالشكل المطلوب".
وأضاف جودة في تصريح لـ"جسور بوست": "اللجنة التي تم تشكيلها للتحقيق في الأحداث لم تُفصح عن أي نتائج واضحة، وليس هناك ما يدل على جديّة عملها أو متابعة حقيقية لملفها، مما يثير تساؤلات حول فاعليتها ومدى التزامها بالكشف عن الحقائق".
وحذّر جودة من خطورة التعامل مع هذه الأزمات وفق معادلة "الأمن بالأمن"، معتبرًا أن "هذه أخطر معادلة يمكن اتباعها، ويبدو أن العقلية الحاكمة لا تزال تعتمد على الحلول الأمنية كوسيلة لفرض الاستقرار، في حين أن الأمن الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلا عبر سياسات شاملة تشمل تحسين الاقتصاد، وتعزيز المصالحة، وتحقيق العدالة، وإجراءات تُرسخ استقرار المجتمعات".
وأشار إلى أن "المسار السياسي الحالي يعاني من احتكار واضح للسلطة، ولم يؤدِّ الاتفاق مع قسد أو الإعلان الدستوري إلى إحداث أي تغيير حقيقي في مشهد الحكم، حيث لا تزال المشاركة السياسية الفعلية محدودة".
وشدد جودة على أن "إنهاء ملف العنف يتطلب عملية سياسية شاملة وتوافقًا بين الفصائل الشريكة في المرحلة الانتقالية"، مؤكدًا أن "طيّ صفحة العنف لا يمكن أن يقتصر فقط على المساءلة القانونية والحقوقية، بل يجب أن يكون جزءًا من انتقال سياسي جاد".
وأضاف: "حتى عملية المساءلة، رغم أهميتها في محاسبة النظام السابق، يجب ألا تكون أحادية الاتجاه، بل ينبغي أن تشمل جميع الأطراف؛ فلا يمكن تحقيق سلام مستدام بدون عدالة شاملة تطول الجميع".
وأكد جودة ضرورة "إعادة التفكير في المرحلة الانتقالية بطريقة أكثر تشاركية، إذ يجب أن يكون الأساس هو المصالح الاجتماعية، وليس منطق الثأر والانتقام"، محذرًا من أن "استمرار النهج الحالي سيؤدي إلى تكرار حوادث العنف، حتى تصبح جزءًا من الواقع السوري اليومي".